مشهد داخلى:"كل المشاهد تدور ليلا"
جلسة امتدت طويلا،مقاعد كثيرة متزاحمة حول طاولة مكدسة بالأوراق،المصابيح خافتة الاضاءة وضيق المكان وحوائطه المطلية بلون أصفر باهت تزيد من احساس الجالس بارتفاع سقف الحجرة؛مما جعل أصوات المجتمعين أعلى وأكثر حدة تتقاطع لتبتر بعضها البعض وتزيد من ضيق المكان لتعطيك الاحساس أن الوقت نفسه أصبح ضيق.بعض الأصوات تحاول الاعتراض،والبعض الاخر يحاول الاتفاق،وآخرين يحاولون التوفيق بين هذا وذاك ولكن المؤكد أن الكل قرر التأقلم والذوبان فى الصخب...صخب كبير.
مشهد خارجى:
ممر ضيق بين عمارتين فى وسط البلد بعد منتصف الليل؛اثنان يفترقان عن مجموعة الاجتماع و يلوحان لهم بعيدا والمجموعة يلتهمها الشارع الكبير.الاثنان..رجل وامرأة..رجل فى الاربعينيات من عمره،طويل ليس ببدين ولكن جسده مترهل بسبب طبيعة عمله المكتبية.يرتدى بنطلونا رمادى وقميصا أبيض من الكتان؛أهم ما يميزه مشيته يمشى مهدل الكتفين غير مهتم بأى شئ حتى عينيه الزرقاوان الآسرتان لكل من نظر اليهما.محمود،يعمل كمترجم وله محاولات نقدية نشر منها عدة مقالات.امرأة فى الثلاثينيات من عمرها ترتدى فستان زهرى قصير دون أكمام ترفع شعرها ببساطة عن وجهها ولكن تختار بعناية الخصلات المنسابة على وجهها الدقيق الملامح ذو الذقن المدببة فى محاولة منها لكسر حدة ذقنها بتلك الخصلات.تسير المهندسة رضوى الى جوار محمود ببطأوهى تنظر للاسفلت.
رضوى فى محاولة منها لكسر الصمت:اجتماع ناجح؟صح؟
محمود:هذا كله كلام فارغ دون أى نتائج.
رضوى بدهشة:على الأقل قلنا رأينا بصراحة ودونما خوف.
"فى غرفة ضيقة...منتهى الحرية وقمة الانجاز"
"طفلة،لا تزال تحلم وتفرح بالاشياء الصغيرة والسخيفة"قالها بلهجة ساخرة لاذعة.
رضوى تستفسر:"لقد حضرت هذا الاجتماع لأنى ظننت أنه يهمك؟!"
اقترب منها محمود ووضع يده حولها وقربها اليه حتى صارا يتشاركان نفس النفس:"ما يهمنى هو أنتى،وأن نكون معا"
"اذا لماذا تحرص على أن نحضر كل هذه التجمعات؟" "لماذا؟"
محمود:"ليس من حقك أن تسألينى او تحاكمينى...أنت فقط تشاركينى ما أسمح لك به" وأبعدها عنه بعنف.
فى هدوء مصطنع:"تصبح على خير"
مشهد داخلى:
منزل رضوى،ليس بيت بالمعنى المفهوم بل هو استوديو فوق أسطح أحدى عمارات المعادى القديمة.أثاثه قليل وعلى الطابع الأمريكى،استلقت على كنبة كبيرة وأغمضت عينيها واستغرقها البكاء.رن الهاتف وأجاب جهاز الرد الآلى سبع مرات وهى نفس الرسالة من نفس الصوت:"رضوى،أنا آسف"
أشرق وجهها بابتسامة دافئة،التقطت سماعة التليفون..أرسلت شعرها على كتفها وهى تطلب الرقم.
صوته متلهفا:"آلو"
"ايوه،يا محمود"
"أنا آسف،انتى عارفة انى أفقد اعصابى بسرعة ومن غير سبب"
رضوى فى دلال:"لقد نسيت الموضوع،المهم أنك لم تقدر على اغضابى ولو لليلة واحدة"
"أنا سعيدة"
محمود كمن أفاق من غيبوبة:"سعيدة؟ بماذا؟"
"انك لم تقوى على تركى انام حزينة"
بهيستيريا:"بهذا؟أم بضعفى أمامك؟"
مستغربة:"هل خوفك على ضعف؟واحترامك لمشاعرى واعترافك بالخطأ ضعف؟"
محمود ناهيا الحديث:"لن أتحدث فى هذا الموضوع،لقد اغلقته"
بدأ حديث جديد:"أنا عازمك على العشاء غدا،فى مطعم برجوازى على النيل عندا فى كل الرفاق"
"بمناسبة ايه؟"
"لقد قبضت عربون ترجمة كتاب جديد،زائد ان غدا يمر ثلاث سنوات على حبنا وهذه مناسبة تستحق الاحتفال"
"حاضر،متى وأين بالضبط"
وضعت قلمى وقلبت صفحات الدفتر وأعدت قراءة المشاهد الثلاثة،تفكرت فى معناها وماذا تعنيه بالنسبة لى،كيف تحولت محاولتى لكتابة مذكراتى الى هذه الرضوى وذاك المحمود من أين اتوا وكيف انسابوا على الورق؟!ما صلتى أنا برضوى؟أم ان الصلة بيننا أكبر مما أتصور.
عامة قررت أن أخوض التجربة لآخرها،أمسكت بقلمى و عاودت الكتابة.
مشهد داخلى:
مطعم كبير على النيل،راقى جدا؛مفارش حريرية..أدوات مائدة فضية..كؤوس كريستال..اضاءة هادئة ورومانسية.ورضوى فى خضم كل هذا جالسة وحدها على طاولة لاثنين ترتدى فستان أسود طويل بسيط يظهر مفاتنها بأنثوية عفوية .جالسة تنتظر محمود الذى تأخر عن الموعد الذى حدده بنفسه ليحتفلوا بثلاثة سنوات من الحب."يعلم أنى اكره الانتظار" رد عليها عقلها بسخرية:"تكرهين الانتظار،نقصدين ادمنتى الانتظار..ماذا تفعلين منذ ثلاث سنوات سوى الانتظار.ميعاد يشفق عليك به،كلمة حب تسرقيها من بين كلماته الكثيرة فى عشق ذاته،تنتظرين أن يعرض عليك الزواج."
"ولكنه يحبنى،ألا تذكرى عندما كنتى فى حفلة المركز الثقافى الفرنسى منذ أكثر من أربع سنوات،لم يرفع ناظريه عنك حتى انه القى احدى أشعار نزار وهو يحفرك بعينيه داخل قلبه"
"هذا المثقف الذى بهرك منذ أول لحظة بكلامه المعقد الغامض،بعينيه الزرقاء التى لم تكن بحر تستمعى فيه برحلة حب بل دوامة اخذتك من بيتك وزوجك وابنتك وأصدقائك القدامى.فطلقتى وتركتى ابنتك لأبوها وتعرفت عى أصدقاء جدد مصطنعين يحاكمون العالم ولا يغيرونه،يحكوا عنه ولا يعيشونه،يفعلوا طقوس الحب ولا يحبون"
نظرت الى المشهد المكتوب،أول مرة تثور رضوى على انتظاره منذ ثلاث سنوات.أخيرا...لا،أنتى فقط تنفثى عن غضبك قبل أن يصل حتى لا تغامرى بمجرد ان تغضبى أمامه أو منه.تخافين من مواجهته وتلقين بكل اللوم كأنك وحدك المذنبةوليس هو من جعلك هدفا يصب عليه جم غضبه اواحباطاته.تفرغى الشحنة قبل أن يأتى فيتكلم وتسمعى وتستسلمى للوضع الحالى لأنك اجبن من ان تغيرى الوضع الحالى.لأنك لن تتحملى الفشل مع رجل تركتى كل شئ من اجله.لأن غضبك يعنى ضمنيا أن اختيارك كان خاطئا. لن أسمح لك أن تفعلى ذلك بنفسك.
باقى المشهد:
دخل محمود وأخذ مكانه على الطاولة،أشار للنادل:"تيكيلا شوت،لو سمحت"
مداعبا رضوى:"طظ فى البيرة النهاردة..ليلة برجوازية لاشتراكى معتزل"
"الساعة كام؟"
"آسف ولكن الناشر أراد مناقشة بعض تفاصيل العقد والمسائل المادية ونسيت تماما أن أتصل بك وأؤجل الميعاد"
"أنا مستنية من ساعة"
محمود ناهيا النقاش:"اعتذرت مرة قبل ذلك،عامة آسف تانى"
"كيف حالك؟"
"رضوى بغضب يحاول ان يتوارى:"مثل أى يوم"
"كيف ذلك؟وهل اليوم مثل اى يوم؟اليوم يومنا" قالها وهو يداعب يديها الموضوعة على الطاولة.
رن هاتف رضوى المحمول،حينما رأت رقم طليقها انزعجت وردت مسرعة.
"تمام وانت؟"
عندما سمع كلمة "أنت" بدأ يتابع الحديث باهتمام واضح لم يستطع ان يخفيه تشاغله بطلب "شوت تيكيلا" آخر.
"مريضة جدا.كيف؟"
"أنا آتية حالا"
نهضت رضوى مسرعة ومضت من غير كلمة واحدة ولم تنظر وراءها عندما ناداها محمود.
مشهد خارجى:
رضوى تقود سيارتها مسرعة وتصرخ بصوت عالى:"لم ارها منذ شهور وحين أراها تكون مريضة.كيف ستفكر فى الآن"
"ليس ذنبى فلقد أخذها ابوها منى بحجة أنى مشغولة"
ردت على نفسها بسخرية:"حجة؟!هل أنتى متأكدة؟"
قفزت فى ذهنها صورة محمود وهو ممتعض من اصطحابها لابنتها فى أحدى لقاءاتهما معا.
وصلت أمام منزل طليقها.
مشهد داخلى:
دلفت من الباب،وتجولت بعينيها فى أنحاء المنزل الذى تركته بحثا عن الحرية والانطلاق والحب بعيدا عن كل التعقيدات السخيفة،والالتزامات،والواجبات.رأت الوهم الذى تعيشه منذ ثلات سنوات-اليوم هو يوم طلاقها وعيد حبها لمحمود-،رأته بوضوح وبدون رتوش وكيف سحرها بكلامه عن البساطة والتلقائية.وكيف أنه يبسط كل شئ حتى هى.لم تسمع لوم وعتاب طليقها عن تقصيرها فى حق ابنتها.
دخلت غرفة البنت وتذكرت كيف انها طلتها بنفسها باللون الزهرى عندما عرفت أنها ستنجب بنت،احتضنت ابنتها وبكت.
رضوى:"أنا آسفة يا حبيبتى،تأخرت عليك كثيرا"
البنت:"لا تبكى يا أمى.أنا بصحة جيدة وبخير،أليس كذلك يا أبى"
رد الأب فى هدوء:"أكيد يا حبيبتى،وستظلى دائما بخير"
نظر الى رضوى موجها اليها الكلام:"اليس كذلك؟"
ظلت رضوى الى جوار طفلتها حتى نامت.اتجهت الى غرفة المعيشة ورأت طليقها على كرسى هزاز جديد لم تره قبلا وهو ينفث دخان سيجارته بعصبية واضحة.
"أنا عارفة انى مقصرة ومشفتهاش من شهور بس أنا كنت محتاجة لوقت"
"ديه بنتى وأنا عمرى ما حاتخلى عنها أبدا"قالها بحزم ثم نظر اليها وهو يقول:
"فاكرة ديه؟!" وأخرج من جيبه ورقة قديمة كتبتها رضوى قبل ان تفقد ايمانها بالزجل.
"الجدع لما عرف الحق..لف
جمع كل الحظ فى كف..نط
كانت عينيه قناية وكل العالم بط
حس..فرق بي قلب البصلة الحراقة
وقلب الخس...قال
حس ان الحق كلمة وموال
لقى صوته ضايع وسط كلكسات"
قررت الانسحاب أخذت حقيبتهاوهمت بالرحيل
لاحقها صوته:"الهروب هو الحل دايما،ما بقتش مستغرب"
ركبت سيارتها حتى وصلت الى بيت محمود.
مشهد داخلى:
منزل محمود،شقة صغيرة كل ما فيها من أثاث رخيص،الفوضى،للون الدهانات وشكل الفرش يشبه منازل الطلبة الريفيين الذين يعيشون فى القاهرة وقت الدراسة(حياة مؤقتة).
انسلت من الباب،كانت تعرف المنزل جيدا ولكنها لم تلقى التحية.
احتضنها بقوة حتى انها أحست انه يعتصرها:"أول مرة تأتى الى هنا ونكون وحدنا اتمنى أن يكون هذا بدافع الحب"
نظرت اليه بامتعاض ولم ترد على تلميحه السخيف الا بأنها أبعدته عنها.
"محمود لقد فكرت كثيرا فى علاقتنا،ووجدت أننى لن استطيع الاستمرار أكثر من ذلك" وهمت بالنزول.
كانت تلاحقها نظرات الجيران الذين استيقظوا من صوته العالى وسيل الألفاظ المسفة والقبيحة التى بدأيطلقها عليها كالمجنون وهو ينزل وراءها مسرعا على السلم ليس ليس ليلحق بها ولكن تحقيقا لفكرة "الجرسة البلدى".
وصلت الى سيارتها منهوكة القوى كمن وصل الى الشاطئ بعد صراع مع الأمواج.كل كيانها يؤلمها وينزف بقوة وجعا فوق احتمالها كالمهزوم فى مباراة ملاكمة وهزم هزيمة ثقيلة واضطر للتعايش مع الام جسده وكرامته المهدورة.
كان سؤال واحد يطل من رأسها لا يجد اجابة كيف تتحول كل دعوات التحضر والارتقاء بالعلاقات الانسانية الى هذا القدر من البذاءة؟
تركت قلمى وقد اتعبتنى الكتابة،لم اكن يوما عندى تلك الموهبةوهذا التدفق فى الأفكار ولكن من المؤكد أنك واجهتنى بحقائق موجعة لو فكرت لكنت قاومت معرفتها.لا أعرف ان كنت سأكمل قصتك وقصتى ام لا؟
مشهد النهاية:
لم يحدث بعد..............................................